قبل أكثر من 150
سنة من اليوم نشأت علاقة بين السلطة والثروة، كانت نتيجتها أبشع عملية فساد في
تاريخ تونس، شخوصها : بين أفاقين و رجال أعمال و موظفين و وزراء، أحداثها في
أعلى دوائر الحكم في تونس في ذلك الوقت و
ضربها تحت الحزام. و ضحاياها أجيال مضت و أجيال تمضي و لا تزال دون حل إلى اليوم. في
عام 1837 عين باي تونس في ذلك الوقت أحمد باي مصطفى خزندار وزيرا للخزانة في تونس (وزير المالية)، حضي الرجل بحضوة كبيرة لدى
الباي ساعدته بعد ذلك على تنفيذ جميع مخططاته. لكن طموحات مصطفى خزندرا كانت في
حاجة إلى رجل ملم بعالم المال و الاعمال، وذكي، و قابل لأن يدخل عالم المؤمرات و
الدسائس. توفرت كل هذه الصفات في رجل الاعمال الشهير في ذلك الوقت محمود بن عياد
الذي كانت تربطه علاقة صداقة حميمة بإبن الباي الذي سيصبح بايا بعد سنوات قليلة .
على جبهة أخرى إستطاع محمود بن عياد الاستحواذ على جميع ممتلكات عائلته مما اضطرهم
للجوء الى القنصلية الأنقليزية في مناسبتين فرارا من بطشه و كان ذلك في سنوات 1847
و 1848 . تمكن محمود بن عياد و مصطفى خزندرا من السيطرة على قطاعات كبيرة في
الاقتصاد التونسي في ذلك الوقت كما تمكنوا
من الاستحواذ على أراضي شاسعة تعود ملكيتها للدولة. بدأت قصة محمود بن عياد في
بداية القرن الماضي حيث كان يشغل أمير لواء وبحكم إنتمائه إلى أسرة معروفة بثرائها
و صداقته الحميمة بولي العهد أحمد باي
إبن مصطفى باي (باي تونس في ذلك الوقت)
كان يزود الدولة ببعض ما تحتاجه من لوازم الزيت و القمح و الاقمشة حتى حضي بعد
تقلد صديقه أحمد باي العرش بمهمة تصدير كل ما تنتجه البلاد و توريد كل ما تحتاجه،
بدأت ثروة محمود بن عياد تتعاظم إلى أن ضربت في أربعينات القرن الماضي الايالة
التونسية سنوات جدب فتم تكليفه بتوريد القمح من الخارج لتغطية حاجات البلاد، لكن
إتفاقا سريا بين الباي و صديقه محمود بن عياد تحول بمقتضاه هذا الاخير من موظف سام يشرف على مطامير الدولة للقمح إلى
مستلزم يتولى قبول الحبوب من الفلاحين على
أن يدفع مبلغا ماليا للدولة كل عام (مثل ما يحدث في الصفقات العمومية حاليا)، كانت
الصفقة التي عقدها محمود بن عياد مع الباي محمد باي بمثابة مرحلة جديدة من الفساد
الكبير، حيث إستغل محمود بن عياد لزمة القمح لتكديس ثروة طائلة من خلال الغش في
الميزان ، لكن أحد معاوني الباي في المطامير نقل إلى الباي ما يفعله بن عياد. شعر
بن عياد بالخطر فتعلل بأنه سيسافر إلى فرنسا للمداوة من مرض ألم به، جمع الرجل
صناديقه و رسومه و أمواله و كل حججه كما لم ينسى القرارات التي تثبت تكليفه
بالمهام التي عهدت إليه ثم سافر هربا إلى
فرنسا في 16 جوان 1852، قدرت الثروة التي حملها معه إلى فرنسا ما يعادل 60 مليون
فرناك أي ما يعادل 100 مليون دولار في ذلك الوقت ما يمثل 4 أضعاف ميزانية الدولة
التونسية. هرب بن عياد و ترك صديقه الذي حصل على ترقية من الباي بعد أن تم تعيينه
وزيرا أكبر (رئيس وزراء). لاستكمال
مؤمراته عين مصطفى خزندار اليهودي نسيم
شمامة مكان بن عياد الهارب. شمامة الذي
عمل خادما لبن عياد عين في منصبه الجديد مكلفا عاما بالخزينة التونسية، تمكن من
تركيز مكانته في البلاط الملكي من خلال تعزيز علاقته مع وزير الباي الاكبر مصطفى
خزندار الذي لم يكن ليرفض عمولات الصفقات التي يعقدها نسيم وهكذا عادت رائحة
الفساد تعبق في أروقة القصر الملكي. تمكن نسيم من الحصول على عديد اللزمات مثل
القمح و الزيت و المسكرات كما سيطر على عدة قطاعات أخرى مثل الملح و الفحم و
الصابون الطري. إضافة إلى ذلك تمكن من
الاستحواذ على لزمة مكوس التجارة الخارجية (تحصيل الاداءات على البضائع العابرة
للمواني بعقد يمتذ ل19 سنة في مواني حلق الوادي و البحيرة و صفاقس و15 سنة لميناء
سوسة ) وهو ما مكنه من تجميع ثروة هائلة ، و تمكن من إقراض الدولة ما يقارب 19
مليون ريال لمجابهة عجزها المالي، الرجل البسيط المنحدر من عائلة يهودية بسيطة
تختص في تجارة القماش تمكن في وقت وجيز من أن يصبح قائدا على يهود تونس.
على صعيد
أخر و على خلفية الازمة المالية وسؤء إستعمال ميزانية الدولة من طرف الباي أجبرت
تونس على اللجؤء و لأول مرة إلى الاقتراض الخارجي من خلال قرض 1863 ، الذي كان
عملية إحتيال حقيقة من الصيارفة الاوربيين
فللحصول على 30 مليون فرنك إضطرت تونس لدفع 65.1 مليون فرنك وهو ما سيدق المسمار الاول في نعش إستقلال تونس و سيادتها. هذا القرض الذي أقره محمد
الصادق باي حاكم تونس في ذلك الوقت جاء من اجل هيكلة الديون الداخلية التي
تضخمت، لكنه تبخر بين عمولات و فساد و
رشاوي ، فوجدت الدولة نفسها بعد سنة بين
مطرقة الديون الداخلية و سندان الديون الخارجية. مصطفى خزندار الذي تسبب في ضياع
القرض إقترح على الباي نقل الفاتورة إلى الشعب بزيادة الضرائب، لكن هذا الاقتراح
الذي وافق عليه الباي كانت له نتائج وخيمة على القصر الملكي بعد إندلاع إنتفاظة
علي بن غذاهم الشهيرة . إنتفاظة كانت أهم مطالبها التراجع عن الزيادة في الضرائب
كما وجهت أصابع الاتهام إلى مصطفى خزندار و نسيم شمامة . سافر
نسيم سمامة الى باريس في جوان 1864 و كان في مهمة من طرف الباي يطلب فيها سلفة
مالية جديدة من الحكومة الفرنسية و لكنه هرب بعدما حمل معه جميع سجلاته و إثباتات
ديونه و ذهبه، وقدرت الثروة التي حلمها معه ف ذلك الوقت ب27 مليون فرنك. بعد هروب
نسيم شمامة إلى باريس أسند الباي مهمة رئيس القباض إلى إبن أخيه "شلومو شمامة"، و مرة أخرى يعيد السيناريو نفسه
فبعد بن عياد و شمامة، تمكن شلومو و خلال سنتين فقط من جمع ثروة هائلة بإستغلال
منصبه الذي مكنه من السيطرة على عدة قطاعات كانت مركزية في إقتصاد الايالة، وفي
سنة 1866 فر شلومو إلى جزيرة "كورفو" حاملا معه 10 ملايين ريال من أموال
الدولة في ذلك الوقت.
على الجانب الاخر
إختار الباي و وزيره الاكبر مرة أخرى الهروب إلى الامام بعدما تم قمع الانتفاضة
بشكل عنيف و غير مسبوق ، فأقر الباي قرضا جديدا سنة 1865 بنسبة فائدة عائلة وصلت إلى 9.21
بالمائة. لم يساهم هذا القرض في حل الازمة بل عمقها أكثر ، ووصلت ديون تونس
الخارجية إلى أكثر من 125 مليون فرنك. إرتفاع حجم الديون و ضخامتها و عدم قدرة الدولة
على سدادها في ذلك الوقت دفع فرنسا للضغط على الباي من اجل إعلان إنشاء الكومسيون
المالي و ذلك يعتبر أولى مراحل إحتلال تونس. أشرف الاصلاحي خير الدين التونسي على رئاسة الكومسيون و بعد تحقيق دام أشهر تمكن
من التعرف على كثب عن حجم الفساد الذي كان يمارسه مضطفى خزندار ، ، فشكل الباي
مجلسا لمحاسباته فإستنجد مصطفى خزندار بسفير فرنسا لكن الاخير رفض نجدته ما
إضطره إلى طلب الصلح من الحكومة بمرارة
التي صالحته مقابل دفع 25 مليون فرنكا كما أصدر الباي أمرا بعزله.
بقي الكومسيون
غطاء لتدمير تونس ماليا تحت عباءة الاصلاح وبعد فشل محاولات متكررة من قنصل فرنسا
بتونس في إقناع الباي بالقبول بنظام الحماية
قرر الفرنسيون التحرك. وفي 12 ماي 1881 إستفاق الباي محمد الصادق من نومه ليرى
وجها أخر لساحة باردو، ألاف الجنود الفرنسيين بمدرعاتهم و أسلحتهم يملؤون شوارع
العاصمة ، كان نتائج 30 سنة من الفساد المالي قد تجسدت و في الساعة الثامنة ليلا
حصلت فرنسا على توقيع الباي على معاهدة الحماية وبذلك إنتهى إستقلال تونس.
زواج السلطة و
الثورة مكن الفاسدين من الدخول إلى القصر الملكي و شغل مناصب هامة في البلاد، مكن
هؤلاء الاشخاص من إختلاس ما يعادل 5 مرات ميزانية تونس، مكن أيضا من إهداء الاوروبيين سببا لانشاء
الكومسيون المالي للسيطرة على ثروات البلاد و مكن أيضا من إنهاء إستقلال تونس و لا
يزال هذا الزواج إلى اليوم يقوم على مبدأ : إقترب من السلطة لتصبح ثريا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire